الزعيم 0 Report post Posted March 15, 2009 قضية الفلك ونشأة الكون قضية جد شائكة ، نظرا لكونها تقع في المنطقة الفاصلة بين العلم والثقافة " بشقيها الديني واليومي " ، فهي من جهة كما نعلم حاضرة بقوة في الكثير من العبادات بخاصة الخلاف الذي يتكرر كل عام ، مع حلول شهر رمضان ، كما أنها من جهة أخرى لا غنى عنها في تحديد زمان ومكان الكشوف والخسوف قبل وقوعه بمدة طويلة، فضلا عن حماية البيئة والتوقعات عبر الأرصاد الجوية. الأمر الذي اختلط معه الحابل والنابل عندما لا يفرق الناس بين ما هو في تعداد التنجيم والرؤية , فالأول دجل وشعوذة يقوم على استغباء العقول والسيطرة على الجيوب بإيهام الناس قراءة مستقبلهم ودرء سوء الطالع عنهم، بينما إن اعتماد الحساب الفلكي العلمي الدقيق، سننهي معه التكهنات والاختلافات في حلول الأشهر الهجرية، بحيث تتحول السنة الهجرية إلى سنة دقيقة منضبطة مثل السنة الميلادية. ناهيك أنه سنحسم جدلا لم ينتهي إلى الآن والخاص بمسألة الرؤية، حتى يتمكن الجميع من وأد ودفن إشكالاً فرَّق الأمة الإسلامية في يوم صيامها ويوم عيدها. ناهيك أن غياب ثقافة الفلك عربياً واقع مأساوي بحق، فمن المعروف أن الثقافة السائدة عربياً تُعاني نقصاً فاضحاً في مجال العلوم، بخاصة منها علم الفلك على الرغم من بعض الجهود المتميزة شكلا ومضمونا. وعسى أن يكون تعلم فيزياء الفلك وعلومه وقوانينه ومفرداته بديلاً معرفياً يسحب من أذهان الناس صورة التنجيم والشعوذة والخرافة ويقطع الطريق أمام المنجمين الذين تطلق عليهم خطأ تسمية "علماء الفلك" بينما تعتمد توقعاتهم على مجموعة من الأوهام والتنبؤات التي لا تقرّها قوانين علم فيزياء الفلك واستنتاجاته مطلقا. ومن ثم ما هو السبيل لفهم دقيق وعلمي لكيفية انبثاق الكون من العدم وظهور الحياة على أديمه شريطة أن تكون الرؤية علمية وخالية من الخيال الجامح والتهويمات السحرية والشعوذة؟ سؤال يجر معه بالضرورة فحص تاريخ علم الفلك والفيزياء المعاصرة، بحيث تبدو معه حلقة التأسيس صعبة جدا، بعد أن اتضح أن عمر الكون بالقياس إلى إشعاع حفريات << الانفجار العظيم>> أو ما يسمى ببقايا الإشعاع الكوني، يرجع إلى 14 مليار سنة إلى الوراء، ما زالت نظريات الفيزياء المعاصرة تتضارب حولها ولم تستطع فك غُلالة أسرارها كليا. غير أن الصعوبة لا تكمن هنا فحسب، بل إن الكلام عن نشأة الكون يفرض أيضا الحديث عن حجمه ومنتهاه، بحيث إذا شئنا تقريبه من الفهم الإنساني العادي، علينا أن ندرك بأن أحدث الطائرات الحربية المطاردة تطير بسرعة قصوى تصل إلى ماخ 3، ما يعني أنها قادرة على الطيران بسرعة تفوق الكيلومتر في الثانية. غير أنه بهذه السرعة النفّاثة والكبيرة جدا، ما زالت تحتاج إلى أكثر من مليون سنة كي تصل إلى أقرب نجم بجوار الأرض. لذا ما يزال الذهول والحيرة يطالان علماء الفلك في ملكوت الله الواسع، على الرغم من الفتوحات العلمية والتقنية الجبارة التي تم تحقيقها في القرن الماضي. هذا في الوقت الذي ما زالت فيه تتكرر كثير من الأسئلة الحادة التي علكتها الألسن منذ القدم: من أين أتى الكون وكيف نشأ؟ وإلى أين يتجه؟ وبالتالي من أين أتى الإنسان وإلى أين نذهب؟ هل حياة الإنسان والكون مرتبطان بعضهما ببعض؟ وهل يساعدنا معرفة نظريات تفسير نشأة الكون، الإجابة عن سؤال كيف سينتهي؟ علاوة على هذا كله، ثمة أسئلة أخرى، منها كم هو عمر الكون؟ ومَن الأسبق الدجاجة أم البيضة في إشكالية نشأة الكون؟ فكل ما رجعنا إلى نقطة زمنية وجدنا نقطة أقدم منها، وهكذا دواليك، بحيث يشبه الأمر دوران القط حول نفسه ليلحق بذيله، غير أنه في هذا المسعى المستحيل يدور ويظل يدور دائما. والواقع أن تاريخ علم الكون بدأ بإجبار العلماء وتحذيرهم من مغبة الغرور وادعاء تقديم وصف شامل وكامل للكون برمته، بل كان عليهم الاهتمام أولا بالعالم القريب " ما هو موجود على سطح الأرض والكواكب القريبة من نظامنا الشمسي"، خوفا من مغبّة السقوط في أوهام التنبؤات وفرضيات أو اختلاق رؤى أسطورية لا تغني ولا تسمن من جوع، خلافا لما ينبغي أن تكون عليه كل رؤية علمية دقيقة. والواقع أن معرفة الكون لم يكن أمرا بالسهل مناله، ما دامت العديد من السمات الأساسية للمادة ما زالت غير معروفة على وجه كامل، بالرغم من الفتوحات الجبارة في مجال النظرية النسبية العامة التي تهتم بفهم العالم في أبعاده الكبرى: النجوم والمجرات وتجمعات أو حشود المجرات، فيما انبرت الفيزياء الكمية إلى محاولة فهم العالم في ثناياه الصغيرة والدقيقة، بخاصة في مجال الجزيئات والجسيمات والذرات والإلكترونات والكواركات... لكن من المعروف أيضا بأن كلا النظريتان متعارضتان، فصحة افتراضات الواحدة منها تلغي الأخرى، ما يجعل إحداها على صواب والأخرى على خطأ. لذلك يحاول العلماء فك هذا التناقض عبر محاولة إيجاد جسر رابط سواء عبر ما سمي بنظرية الأوتار الفائقة، آخر ما تفتقت عنه عبقرية العلماء في تذليل العقبات بين النظريتين، بخاصة أنها تحاول أن تجد نظرية موحدة في الفيزياء تستطيع أن تجمع كل قوى الطبيعة الجبارة مع أدق المكونات المادية الصغيرة في نسيج نظري واحد. غير أن المهم يبقى معرفة الكون في أكبر أبعاده وفي أصغر أبعاده على حد سواء، فإذا الكون مكون من نجوم ومجرات ومجرات فائقة، فهو مكون في تقاسيمه الصغرى من ذرات وإلكترونات ونيوترونات... إذ لا يخفى بأن اللغات تكونها جمل... والجمل تكونها حروف... وبالتالي إن البحث في اللغة لا يمكن الاستغناء فيه عن الجمل والحروف معا، وهو ما يمكن على غراره تطبيقه أيضا في الكون عبر الانطلاق من النجوم والمجرات الكبرى، بالإضافة إلى البحث في الجسيمات والذرات والإلكترونات والنيوترونات... معادلات الفيزياء الحديثة : ظهور النسبانية وسقوط الحتمانية تعد نظرية ميكانيكا الكم أهم نظرية ظهرت في بدايات الألفية الثانية، تفسر الطبيعة الثنائية، الموجية والجسيمية للمادة، بالإضافة إلى خاصيتها الاحتمالية على الصعيد ما تحت أو دون الذري، وهي نظرية تبتعد كثيرا عن نظرية القانون الواحد في تفسير كل الظواهر الطبيعية التي يمكن اشتقاق كل قوانين الفيزياء بواسطتها رياضيا، أو على الأصح إن كل قوى الأربعة الأساسية في الكون " القوة الكهرومغناطيسية، والقوة النووية الضعيفة " التفاعل الأساسي الذي يسبب النشاط الإشعاعي"، والقوة النووية الشديدة " التفاعل الأساسي الذي يربط الكواركات ـ مكونات المادة على المستوى ما تحت الذري ـ سوية في نواة الذرة"، والجاذبية يمكن أن تجمع في قانون واحد. هذا مع العلم بأن هذا القانون لم يتم التوصل إليه، وربما لن يتم التوصل إليه في الأمد القريب والمتوسط. ومن ثم لاحظنا بأنه إذا كانت السببية معطى أساسي في الفيزياء الميكانيكية هدفها المساهمة في استنتاج شيئ ملاحظ من شيئ غير ملاحظ، فلقد لحقها في الفيزياء الكمية تغيير كبير، بحيث تحول عنها الفيزيائيون إلى تبني الاحتمالية. فبعد ما كان << لكل شيئ سبب>> صرنا أمام << كل شيئ محتمل>> ولا ريب بأن العلم ظل أمدا طويلا محصورا في البحث عن الأسباب، هذا قبل أن يقترح العالم الألماني ماخ التخلي عن مفهوم السبب والنتيجة لأن ذلك قد يؤدي اعتبار كل منهما حدثين مفردين ومتمايزين، بينما هما في الواقع ليسا إلا جزئين من نفس الظاهرة. ومن ثم ركز هذا العالِم على العلاقة بينهما، لأن إدراك عناصر الطبيعة يتم من خلالها، واقترح <<الدالة>> كمفهوم أنسب لفهم علاقات العناصر في ارتباطها، بحيث إن ارتباط العناصر بواسطة معادلة قابلة للقياس، يمكن من خلاله أن نعتبر كل واحد منها دالة للآخر. ومن ثم يصبح التصور العلمي للطبيعة نسق من العلاقات الدالية. والحال أن ذلك يرجعنا إلى العالم الفرنسي المركيز بيار سيمون دو لابلاس "1749- 1827" الذي اقترح بعد اكتشاف قانون الجاذبية البحث عن مجموعة من القوانين العلمية يمكننا بواسطتها التكهن مطلقا بما سيقع في العالم مستقبلا، لاسيما أنه يكفي أن نعرف مسبقا حالته في ظرف معين، كي نخمن على وجه التحديد المسار الذي سيتجه نحوه في أي لحظة مقبلة. وبعبارة أخرى أنه عبر أوضاع وسرعة الشمس في ظرف زمن معين، يمكننا مثلا استعمال قوانين نيوتن في حساب وضع النظام الشمسي في أي ظرف زمني آخر، بحيث تبدوا الحتمية في هذه الحالة شبه مؤكدة، غير أن لابلاس لم يتوقف عند حد ذلك، بل أكد وجود قوانين مماثلة تتحكم في باقي الظواهر بما فيها السلوك الإنساني. ولقد ثارت في وجه هذه الرؤية العديد من الاعتراضات والنقد الشديد، أولها دينية لأنها تتعارض مع حرية مشيئة الله في التدخل في الكون، لكنها مع ذلك بقيت كفرضية عامة للعلم إلى غاية بداية القرن العشرين. ثم سرعان ما تم دحضها تجريبيا، بخاصة عندما يرسل جسد ساخن نفس كمية الطاقة في موجات مترددة ما بين مليار ومليارين في الثانية، بحيث يكون هذا التردد ما بين مليارين وثلاثة مليارات موجة في الثانية. مفاد ذلك أنه إذا كان عدد الموجات في الثانية غير محدود، فهذا يعني بأن الطاقة الإجمالية المرسلة من قبل هذا الجسد الساخن يمكن أن تكون غير منتهية. ولكي يتم تجنب هذه النتيجة المثيرة للسخرية، اقترح العالم الألماني ماكس بلانك في سنة 1900 بأن الضوء وأشعة << X>> والموجات الأخرى لا يمكن أن تُرسل بنسب اعتباطية، بل في شكل حزمات أطلق عليها << كموم " جمع: كم"=quanta >>. فضلا عن أي كم"quantum" "وحدة أي كمية فيزيائية، تكون قيمها مضاعفات لهذه الوحدة" له نسبة معينة من الطاقة تزداد بفعل ارتفاع تردد الموجات. كذلك ضمن تواتر عالي القياس، يتطلب إرسال كمّ واحد، طاقة أكثر مما هو موجود ومتوفر. بحيث ينتهي الإشعاع عالي القياس إلى التقلص، وبالتالي إن النسبة التي فقد بحسبها الجسد طاقته ستكون منتهية. ومن ثم إن الفرضية الكمِّية تشرح تماما نسبة إشعاعات الأجساد الساخنة المرسلة، لكن تداعياتها على الحتمانية لم تأخذ بعين الاعتبار إلا مع سنة 1924، حيث عمد ويرنر هاينزبرغ إلى صياغة << مبدأ عدم اليقين>> أو الارتياب، بحيث إن قياس سرعة جسيم وحالته المستقبلية، يتطلب منا قياس وضعه الحالي وسرعته على وجه الدقة. لكن في هذه الحالة بالذات يجب إضاءته، بحيث إن أشعة الضوء الساقطة ستتناثر من قبل نفس الجسيم لتحديد حالته، فيما أنه لن يكون بوسعنا تحديد هذه الحالة والمسافة بين موجات الضوء على وجه الدقة، ما لم نستعمل ضوءا قصير الموجة كي نحصل على قياس أدق. غير أن بلانك يعتبر بأنه لا يكفي استعمال كمية ضوئية صغيرة، ما يفرض علينا استعمال كم "quantum" واحد على الأقل، ما سينجم عنه اعتراض الجسيم وتغيير سرعته بشكل غير متوقع. ناهيك أنه كلما أردنا قياس الحالة على وجه الدقة، كلما كان طول موجة الضوء التي نحتاجها قصيرة، تطلبت طاقة الكم أن تكون عالية، مما تتأثر معه سرعة الجسيم بشكل قوي ولا يمكن تفاديه. وبمعنى آخر أنه كلما حاولنا قياس وضع الجُسيم بدقة، كلما نقصت إمكانية حصولنا على سرعته وثباته بنفس القدر. لذك برهن هينزبرغ أن عدم اليقين الذي يحيط بوضع الجسيم مضاعف بعدم التيقن المحيط بشحنة الجسيم، لا يمكن أن يكون أصغر من ثابت بلانك " ثابت كوني يحكم تكْمية النظم الميكروسكوبية". فضلا أن هذا الحد غير خاضع للطريقة التي نحاول بها قياس وضع أو سرعة الجسيم ولا نوعه أيضا، لأن مبدأ عدم التيقن الذي وضعه هايزنبرغ هو خاصية كامنة في العالم. ومن ثم كان لهذا المبدأ نتائج عميقة وخطيرة حول الطريقة التي نتصور بها العالم، بحيث وضع حدا للحلم الذي راود لابلاس وكثير من العلماء في بلورة نظرية علمية تشمل نموذجا محددا وشاملا للكون. إذ كيف يمكن التنبؤ بمسار الأحداث مستقبلا وبيقين كامل في ظل عجزنا عن قياس وضعيته الحالية بدقة. الأمر الذي دفع هايزنبرغ وإروين شرودينجر وبول ديراك في العشرينات إلى إعادة النظر في الميكانيكاالكلاسيكية وتصور الميكانيكا الكمية كبديل، بحيث لم يعد للجسيمات وضع محدد على وجه اليقين ولا تحديد سرعتها عبر الملاحظة، إذ هي في حالة كمية تلف وضعها وسرعتها. وبالتالي لا تتنبأ الميكانيكا الكمية بحالة وحيدة ومحددة عبر معطيات ملاحظة بعينها، بل تستبدل ذلك بعدد من النتائج الممكنة والمختلفة، كي تقدم وفق هذا المنظار لكل منها احتمال الوجود. ومن ثم دخلت الصدفة في العلم، لكن هذا لا يعني بأن العالم تحكمه الصدفة، فهذا مستحيل في نظر أينشتاين حين قال في كلمته الشهيرة: << إن الله لا يلعب النرد>>. عناصـــــر الكــون ونسيج الفضاء - بداية لم يكن معروفا من هذا الكون الفسيح والمتمدد إلى غاية سنة 1800، غير 6 كواكب قريبة من أصل 9 التي يضمها النظام الشمسي، لكن اليوم "اتسعت الرؤيا وضاقت العبارة" أمام هذا الكون الشاسع والفسيح الذي يضم نوعين من الكواكب، تمثل الصغرى منها الكواكب الأرضية، سواء التي يحيط بها محيط هوائي "جو" أم لا، بحيث تمثل " عطارد، الأرض، المريخ، الزهرة، ، بلوتون..." نجوما صخرية ومعدنية ذوات مساحة صلبة، بينما الكواكب الأخرى مثل "المشتري، زحل، أورانوس، نبتون" بالإضافة إلى جميع الكواكب التي تم اكتشافها بالقرب من النجوم، فهي كواكب عملاقة مكونة من الغازات. غير أن استعمال مصطلح << غازات>> لا يستقيم ما دام الهيدروجين والهليوم كمواد غازية في الأرض، فهي على العكس من ذلك لزجة في علياء السماء، ما يجعل تلك الكواكب مجرد كرات لزجة عملاقة في وضع دوراني، تحتوي كلها على فضاء يمتزج مع طبقاتها الداخلية ولها نواة صلبة. والحال أنه مهما كانت حدة أعين أكثر الناس بصرا لا يستطيع أن يرى أكثر من 3000 نجم، فيما استطاعت المراقب الفلكية اليوم أن تكشف لنا اليوم أكثر من 1500 مليون نجم. - ثانيا، تشكل النجوم كتلا من الغازات يصل عرضها آلاف أو مئات الآلاف من الكيلومترات، لا تظهر في الغالب إلا كرؤوس إبر مضاءة أو مشتعلة من مختلف الأحجام والألوان، فهي أجسام ملتهبة ومتقدة تشع نورا وحرارة، وقد نجد تركيبة بعضها مزدوجة تدور الواحدة منها في فلك الأخرى. فضلا عن وجود نجوم حمراء قزمية الشكل، منتشرة بكثرة في المدار الأسفل من النجوم، حيث تصل كُتلتها العامة نصف كتلة الشمس وتبلغ درجة الحرارة على سطحها حوالي 4000 درجة. ثم نجد أيضا نجوما صفراء من نوع شمسي بدرجة أقل، لكن حرارتها مرتفعة قليلا وأكثر كثافة، بينما نجد في مدارها الأعلى نجوما عملاقة زرقاء أكثر إشعاعا وأكثر كثافة من الشمس عشرات المرات، حيث تفوق درجة حرارتها أكثر من 50000 درجة، لكنها نادرة جدا. علاوة أن هذه النجوم تظل ملتهبة طوال حياتها وبنفس الطريقة، بيد أنها تصبح عرضة لتحولات كبيرة في شيخوختها، الأمر الذي يوحي بأن الشمس بعد أن يحين أجلها سوف تتحول إلى نجم عملاق أحمر أكثر لمعانا وأكبر من أي نجم عادي مئات المرات، ثم لا تلبث أن تنفجر في النهاية مُخلِّفة ركاما من الأجساد المتناثرة أصغر بمئات المرات من النجوم العادية، تعرف بالأقزام البيضاء. - ثالثا، يظهر الغبار المجري أو النجوم السديمية كسحب رقيقة من الغاز ورهج الغبار المتناثر هنا وهناك، بحيث تتكون النجوم في سحب من الغاز والغبار، كما تعد خزانا للهيدروجين والهليوم، فضلا عن احتوائها أيضا على بقايا من غازات أخرى وركام من غاز الكاربون يغطي مساحتها الجليد. إذ من المعروف عموما أن النجوم تولَد في سحب غاز وغبار عملاقة، بخاصة أن قربها أو بعدها من نجم ما، هو الذي يجعلها مضيئة أو مُعتَّمة. ذلك أن غياب النجوم من جوار الغازات يُسبب العتمة، فيما إن النجوم السديمية الكبرى هي سحب جزيئية من مختلف الأعمار، ترجع إلى مئات من السنين الضوئية وتختزن المواد الأساسية لنشأة ملايين من النجوم. حيث بينت الفيزياء الفلكية الحديثة أن الأجرام السديمية هي، إما مراكز ولادة نجوم " عبارة عن غيوم غازية ممتدة يضيئها إشعاع نجوم تكونت حديثا ولا تزال مدفونة في هذه السحب والغيوم" أو نجوما نزعت قشرتها السطحية خلال مرورها بطور العملاق الأحمر، وبالتالي يصبح المظهر السديمي في هذه الحالة يرجع إلى هذه المادة المنتشرة في الفضاء، حيث مقاساتها تعد بالسنين الضوئية. - رابعا، تتميز المجرات " منطقة في السماء قوامها نجوم كثيرة لا يُميزها البصر فتراها العين بقعة بيضاء" بكبرها الذي يضم الكواكب والنجوم وسحب الغاز والغبار مهدها الأول. إذ تضم ما بين 100- 1000 بليون نجم، بحيث توجد ثلاثة أنواع منها: منها المجرات الحلزونية تضم قرابة 200 مليونا من النجوم، وهي حلزونية لأنها توزع النجوم وسحب الغاز بشكل حلزوني، تماما مثل حركة اليد المرفوعة دائريا. لكنها على الرغم من كونها مُسطحة كقرص، فهي تحتوي على بُرعمة "بُصيْلة" مركزية، إذا نظرنا إليها جانبا، نَجدها تُشبه بيْضتين فوق طبق ظهرها مسند إلى ظهر الآخر. كما تعتبر المجرات الكبرى إهليلَجية الشكل " بيْضية الشكل"، هي أكثر كثافة من المجرات الحلزونية وحجمها يفوق مئات آلاف السنين الضوئية، نظرا لكونها تشبه في شكلها العام الكرة المستطيلة. أما إذا نظرنا إلى الفارق بينها وبين الحلزونية، فهي لا تضم إلا القليل من نجوم سحب الغاز والغبار. ثم تأتي بعد هذه المجرات، المجرات غير المنضبطة في الشكل، كما أن هناك مجرات لولبية وبيضوية ومجرات ممزقة ومجرات مزدوجة ومجرات مزدوجة دوارة ومجرات بيضوية متفجرة ومجرات مزدوجة ملتصقة. - خامسا، إن الحشود المجرية تعني بأن الكون متعدد المجرات، فهي مثل تلك النجوم التي تحت ضغط الجاذبية تبقى مجمّعة من أجل تكوين مجرات أخرى، أو مثل المجرات التي تُكون فيما بينها مجموعات واسعة تصبح بعدها كومة وحشود من المجرات. ويتبين أن الحشود المجرية الكبرى كالعذراء تضم آلافا من المجرات تمتد على 20 مليون سنة ضوئية، بينما الصغرى منها كمجرة أندروميدا لا تضم إلا ثلاثين من المجرات الصغرى لا تفوق 5 مليون سنة ضوئية، حيث إن الحشود الأكثر غنى تُقدم بنية مهيكلة في المركز مع المجرات الأكثر كثافة ـ بصفة عامة المجرات الإهليلجية ـ . كما يمكن أن تكون هذه الحشود في المناطق المركزية أكثر كثافة، لأن قُطر المجرات لا يبعد فيما بينها إلا قليلا، غير أنها كلما ابتعدنا من المركز تخفت الكثافة وتصبح المجرات صغيرة جدا وغير منتظمة ومتباعدة بينها، بحيث لا تضم إلا بضعة ملايين من النجوم. إجمالا، إن عددا كبيرا من المجرات يظل متقاربا من بعضه على شكل حشد، شكلها بيضوي ومنها ما هو شديد التسطح، لكنها تخلو من النوع اللولبي " الحلزوني". - سادسا، تؤكد الحشود العملاقة بأن الحشود المجرية ليست هي الأكثر اتساعا في بنيتها، لأنها هي بدورها تجتمع فيما بينها لكي تُكون حشودا فائقة أو عملاقة، بخاصة إذا فحصنا أرجاء الكون الفسيح سنجده مثل رغوة خيوط يتكون جدار فقاعتها من حشود مجرية وحشود مجرية عملاقة ممتدة تضم مليارات من المجرات, بحيث نجد في هذه الفقاعة من الرغوة مساحات واسعة خالية من أية مادة، قد يصل حجمها 150 إلى 120 مليون سنة ضوئية. إذ أن مجموع المادة المرئية يكمن تقريبا في هذه الفقاعات العملاقة والخيوط، ما يجعل هذا الكون الذي يضم مليارات المجرات يظهر ويا للعجب كأنه خال وغير مأهول. ذلك أن المناطق المُعتَّمة تمثل مناطق فسيحة من فضاء يبدو خاليا، بحيث يتم تطور النجوم إلى نجوم عمالقة بعد تحول غاز الهيدروجين بعد تفاعله في جسم النجم إلى غاز الهليوم، والذي نظرا لكثافته الزائدة مقارنة بكثافة الهيدروجين فإنه ينجذب باتجاه النواة القائمة حول مركز النجم. ومع تزايده تتزايد الكثافة في النواة بدرجة كبيرة، فتؤدي إلى حدوث ضغط كبير فيها وبعث حرارة هائلة منها، ينجم عنها تفاعل نووي ينجم عنه تمدد حجم النجم شيئا فشيئا، يرافقه تبرد في سطح النجم، يتغير معه لون النجم من لون بنفسجي إلى لون أزرق، ثم إلى اللون الأصفر ومن بعده إلى اللون البرتقالي، ثم إلى اللون الأحمر. بحيث يكون النجم قد وصل إلى أقصى حجم له، يبدو معه في الأخير كنجم عملاق. لذلك يبقى إن الكون من هذا المنظور يُبين أنه إذا كان يضم مليارات من المجرات مجتمعة ومرتبطة بينها بخيوط دقيقة على مدار مليارات السنين الضوئية، فإن أجزاء أخرى فسيحة منه غير مأهولة بالمجرات... ذلك أن الكون في اتساعه الذي لا يمكن للعقل البشري تصوره، مُكوَّن من ملايير النجوم ولدت لتحيى ثم تموت، بحيث تتجمع في مجرات تتحد بينها كي تُشكل كومة من المجرات الفائقة. إجمالا وبإيجاز شديد، تكشف الفيزياء الحديثة على الأقل مع نظرية "الانفجار العظيم" بأن الكون بدأ في التشكل كغبار من الهيدروجين والهيليوم. ثم طالته البرودة بسبب تمدد هذا السحاب أو الغبار بسرعة فائقة بعد أن كانت درجة حرارته تفوق حرارة الشمس ملايين المرات. الأمر الذي دفع بعض الفلكيين إلى الإعلان بأن النجوم والمجرات ظهرت منذ مليارات السنين، بحيث أنه لما شاخت هذه النجوم وانفجرت تناثرت منها في الفضاء العناصر الذرية الأولى التي هي أكثر وزنا من الليتيوم " العنصر الثالث بعد الهيدروجين " يشكل %73 بالمائة من المادة المرئية" والهيليوم "العنصر الثاني الأكثر وجودا في الفضاء" خلال الانفجار العظيم. إذ أنه من خلال هذه العناصر الذرية الثلاثة في تفاعلها تشكلت الكواكب والأحياء. والسؤال الأساسي الذي يعترض سبيلنا في تطبيق فتوحات العلم وعلم الفلك الحديث على نشأة هذا العالم، يبدأ من معضلة القول بأن الكون كان موجودا منذ الأزل، ما يجعل وضع العالم في الوقت الحالي لا يمكن تفسيره بصورة تامة بالركون إلى الحالات الأسبق، لأن كل ما رجعنا إلى سبب امتدت خطوط الرجعة إلى الخلف بدون نهاية وبدون انقطاع في سلسلة السببية، وبالتالي كل ما رجعنا إلى الخلف سنجد نقطة أخرى إلى ما لانهاية. وبالتالي سنظل ندور وندور إلى ما لانهاية... ومن جهة أخرى إذا قلنا بأن الكون ظهر إلى الوجود في لحظة معينة من الماضي، فإن اللحظة الأولى التي ظهر فيها الكون تصبح فريدة من نوعها، لكن هنا كيف نربط بين الوجود والعدم ما دام أن الصانع سبحانه هو وحده القادر على القول: << كن فيكون>>. إذ يبدو أنه مهما بلغت نظريات تفسير الكون من دقة وعلمية، يبقى شيئا هناك ما وراء القوانين العلمية، ينبغى الرجوع إليه عندما كان الزمن يساوي صفرا. لكن السؤال المحير، هو ما هو هذا الشيء الخارق؟ وهنا بالذات تخرس جميع الألسنة وتقر بعجزها. ثمة تصور ثالث يقول أنه لا هذا ولا ذاك، بمعنى أنه لم يكن هناك كون منذ الأزل، ولا كون ظهر على حين غرة وفجأة. ومن ثم إمكانية وجود طريق ثالث بين الطريقين السالفين الذكر، هو أن الكون لم يوجد دائما، ولم يظهر على نحو مفاجئ في لحظة زمنية خلق فيها، بل ظهر تدريجيا كما يعنيه زمن بلانك " أي 10 -43 من الثانية: يستنبط زمن بلانك من ثابت بلانك وثابت الجاذبية وسرعة الضوء". وهذه الإمكانية يمكن أن نتبناها على ضوء ميكانيك الكم، حيث مبدأ عدم اليقين لهايزنبرغ، ما يعرف بعامل اللاحتمية في الطبيعة. مفاد هذا الرأي أن الأحداث على المدى المجهري على الأقل، يمكن أن تكون تلقائية، أي أنها تحدث بلا أسباب سابقة تامة التحديد وحتمية على هذا الوجه أو ذاك، ما يترك لهذه اللاحتمية أن توفر للكون فرصة الظهور دون أن يخلق أو << يسبب>> بطريقة فيزيائية خاصة. الأمر الذي يؤدي إلى القول بأن الظهور التلقائي للكون يتماشى مع قوانين فيزياء الكم " فيزياء الذرة"، بينما في الفيزياء الكلاسيكية يعتبر ذلك معجزة، ولا يمكن تفسيرها علميا. والأهم بأن مبدأ عدم التيقن " اللاحتمية، الارتياب، عدم اليقين" يخبرنا بأنه لا نملك تحديد سرعة واتجاه الجسيمات الأولية في الذرة، ما يعني بأن الكون عبارة عن مكان مضطرب عندما نختبره على وجه التحديد لمعرفة موقع الجسيمات الأولية مثل الإلكترون بدقة، نقوم بتسليط ضوء ساطع ذي تردد متزايد يساعدنا في معرفة حركة هذه الإلكترونات. لكن ذلك لا يمر مرور الكرام، بحيث إن ملاحظاتنا تصبح مشوشة ومضطربة تمام الاضطراب، لأن طاقة الفوتونات عالية التردد التي من المفترض أن تساعدنا في معرفة حركة الإلكترون بدقة، تتدخل بمجرد تسليط ضوئها في حركة الإلكترونات فتغير من سرعتها بشكل ملحوظ. الأمر الذي يكشف عن تداخل مبدأ عدم التيقن بالاضطراب، بحيث لا نعرف مثلا حركة الإلكترون المحبوس في صندوق على وجه التحديد. فكل ما نشاهده هو تحركه في جميع الاتجاهات وبسرعة كبيرة، أما إذا سلطنا الضوء عليه، فإن فوتونات هذا الضوء تتدخل هي بدورها في سرعة واتجاه الإلكترون اللذين يتغيران بشدة وبشكل غير متوقع بين لحظة وأخرى. والواقع أن هايزنبرغ كشف سمة أساسية في العالم المجهري تتعلق باضطراب أدق المكونات فيه، بحيث يستحيل أن نحدد على وجه اليقين موقع حركة الإلكترون، فهي تتحرك في كل الاتجاهات. الجزء الأول من مقال للباحث الدكتور / حسن المصدق - أستاذ بجامعة السوربون . Share this post Link to post Share on other sites
الزعيم 0 Report post Posted March 22, 2009 الإجابة على الأسئلة التي تضمنها المقال السابق يفرض العودة إلى نشأة الفلسفة بعامة وفلسفة العلوم بخاصة، إذ ظهر علم الكونيات آنذاك مرتبطا بالوقوف في وجه التفسيرات الأسطورية والحالمة للكون .. بحيث إن الفلاسفة الأوائل عندما بدأوا يفكرون في الكون كانوا يقصدون بالكون شيئين مرتبطين : العالم والنظام ، فالقول بالكون والتفكير بالنظام متلازمان وكل واحد لا ينفصم عن بعضه البعض . بالإضافة أن الإغريق اعتبروا انسجام الكون في تناغم عناصره شبيها بقلادة حلي نسائية ، بحيث لا غرابة إذا كانت كلمة كوسموس "Cosmos" والتي تعني الكون, قد اشتقت منها لاحقا كلمة "Cosmétique" بمعنى التجميلي وفن التجميل "cosmétologie" من حيث ارتباطهما بالجمال نظرا للانسجام الشامل الموجود في الكون وبوصفه نظاما متناغما . ومن ثم يمكن أن نقدم أول تعريف كلاسيكي للكونيات على أنها البحث في وصف النظام العام للكون ، بحيث نبدأ بالسؤال أولا : هل هناك ثمة نظام عام ؟ وإن كان الجواب بالإيجاب، فما هو ؟ وكيف تنتظم عناصره وتنسجم ؟ لذلك نجد أن أي ثقافة تحاول أن تفسر عالمها المحيط بها تنطلق من تقديم وصف يخص كيفّية انتظام الأشياء داخله ولماذا هي في هذه الحالة دون أخرى . الأمر الذي يجر إلى الحديث عن أصلها ، وبالتالي إن القصص والحكايات حول ذلك لم ينعدما قط في مجمل الثقافات ، إن لم يكن ذلك ضرورة لازمت الإنسان ، بدءا من نسجه الأساطير والخرافات التي حاولت أن تضع تفسيرا لنظام العالم ووضع الإنسان فيه . بحيث يمكن أن نجزم عدم وجود حضارة بدون أسطورة كونية أو قصة تروى عن نشأة الكون . لذا إن السؤال اليوم حول دور نظرية الانفجار العظيم "Big Bang" "الأسطورية" والعلمية جدا في نفس الوقت، له أكثر من مبرر إذا اعتبرناها هي بدورها قادرة كليا من منظورها الخاص، تفسير أصل العالم ونشأته كليا . لكن علينا أن نضع في حسباننا تحذير أوغست كونت في سنة 1852 من مغبة ادعاء أي نظرية علمية تفسير الكون بطريقة كلانية، لأن العلم لا يخوض في تفسيرات عامة ومطلقة وشمولية، بقدر ما يبحث في ما هو جزئي ومتحول وخاص. هذا هو حال نظريات فيزياء الكون وقدر فرضياتها ومسلماتها على حد سواء منذ فجر التاريخ ، ناهيك على اختلاف الآراء في علم الكونيات وتضاربها تضاربها شديدا. أليس ذلك ما ذهب إليه العالم جيمس بيبلز James Peebles في افتتاحية مجلة <<العلم الأمريكية>> التي تضمنت ملفا شهيرا لعلمي الفلك والكونيات : " إن كل الآراء المطروحة قد لا تكون صحيحة، بل أنها ليست متماسكة مع بعضها البعض الآخر". غير أنها مع ذلك تحتوي على جانب من الحقيقة، وبديهي ذلك في سوق يمور بالأفكار والنظريات والمعادلات المختلفة، لكن دار لقمان عندنا غير ذلك تماما، ما دامت التهويمات السحرية للكون هي الغالبة، بل أن مجرد تقديم تفسير مادي فيزيائي للكون يثير تشنجا يطرح أكثر من سؤال . ناهيك أنه عندما يعمد أهل العلم في الساحة العربية لتقديم نظريات علمية في ميدان عصي وصعب المسالك، يجدون أنفسهم في قفار مقفرة. فعدم وجود تراكم معرفي وعلمي في الساحة العربية والنقص الهائل في ميدان الترجمة والتعريب، يجعل من الباحثين الجادين أشباه أسطورة سيزيف"Sisyphe" جدد في صعوده إلى قمة الجبل ينوءون تحت عبء حمل ثقالة تخلف ما بعدها ثقالة. فالفقر المدقع الذي تعاني منه لغة الضاد في تعريب المصطلحات العلمية والتضارب الشديد بينها إذا وجدت، يجعلها تضيف إلى الصعوبة غموضا وإلى الغموض تعقيدا. ويزداد هذا التعقيد حول مفهوم الكون لأنه كان دائما محل شد وجذب بين العلماء والفلاسفة ورجال الدين، إذ لم يسلم هذا المفهوم بدوره من مِعول النقد، بحيث كان محط تغيير وتحول مستمر عبر تاريخ الإنسانية. فهاته الكلمة دون سائر الكلمات الأخرى، كلمة بدائية بامتياز وتختزن فيها رؤية الإنسان للكون منذ أن فتح عيناه ورفع رأسه يتضرع إليها أو رهبة وخوفا منها. ولا بأس أن نذكر في هذا الباب أن نص أفلاطون " طيمواس" "Timée" بمثابة أحد النصوص المؤسسة لنظرة الإنسان إلى الكون: كروح ومادة، حيث اعتبر انسجام العالم الكوني بمثابة كائن شبيه بتناغم العالم البشري. غير أن قصة الكون تقتضي الإبحار من المرور عبر جملة التصورات السحرية والبدائية التي داعبت الخيال الإنساني إلى تفسيرات الانفجار العظيم والتضخم الكوني العلمية القائمة على الفيزياء المعاصرة، مما يجعل قصة الكون شبيهة برحلة سفر في التاريخ، تاريخ علم الفلك كما نشأ وتطور عند مختلف الشعوب والحضارات " الفراعنة، الإغريق، البابليون، الروم، الهنود والصينيون"، دون أن ننسى مساهمات علماء الفلك المسلمين من أمثال البيروني، ابن رشد، ابن عربي. فضلا عن رؤية الديانات التوحيدية للكون ونشأته. ثم كيف وقع التلاقح والتفاعل بين العلماء في عصر النهضة والمعارك التي واجهها العلماء حول القضية التي شغلت الناس:<< هل تدور أم لا تدور>> ليصل الأمر إلى انتصار العلم على التفسيرات السحرية للكون والدوغمائية التي تخلط بين الدين والعلم، وصولا إلى فتوحات علماء عظام من أمثال كوبرنيك، كبلر، غاليليو، ديكارت، نيوتن، لابلاس، أينشتاين، فردي هويا، غاموف... إلخ. ولا نجانب الصواب أن كل هذه المساهمات تستحق كل التنويه وساهمت بقدر كبير في تطور عقل الإنسانية، لأنها تقدم النظريات والاكتشافات على حد سواء، الواحدة تلو الأخرى عبر العصور والأحقاب. والمهم عندنا أن نحاول قدر الإمكان تبسيط أهم النظريات للقارئ من زاوية فلسفة العلوم التي لا تدرس في الجامعات العربية سواء في الأقسام العلمية أو شعبة الفلسفة، بحيث من النادر أن تجد اختصاصات من قبيل "فلسفة العلوم" أو "علم اجتماع المعرفة" تدرس للطلاب، هذا على الرغم من أن القارئ قد تربكه صعوبة المصطلحات المستعملة " مجرة، ، فوتون، بروتون، الثقب الأسود، الانزياح نحو الأحمر، ثابت هَبُل، الثقب الدودي، الأفق، المادة الدكناء ـ الظلماء ـ، ميكانيك الكم، الإلكترون، الكوارك، الكويزرات، القوة النووية الضعيفة، القوة النووية الشديدة...". علاوة على المعادلات الرياضية التي يبقى من العسير فهمها على غير القارئ المختص. وبديهي أن نشير أيضا إلى عدم نقاش رهانات النظريات العلمية من زاوية فلسفة العلوم، قد لا يوضح ولا يساعد بالشكل الكافي للقارئ العربي مقاصد وغايات هذه النظريات العلمية، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وحتى دينيا. فلا ضير إذا حاولنا في هذا المقام بالذات تقديم بعض الإيضاحات والتفاسير والشروح والدلالات والرهانات حين ذكر هاته النظرية أو تلك. والحال أن هذه القراءة تضع قدر مستطاعها وجهدها بعضا من محاولة تستحق الوقوف عندها من أجل تيسير قراءة قصة الكون فيزيائيا، وبالتالي علميا دون أن نزعم في آخر المطاف أن العلم الحديث قال كلمته الأخيرة أو بمستطاعه ذلك. الإنسان، الكون والعلم : من ديكارت إلى نيوتن منذ أن رفع الإنسان بصره إلى الكون متأملا الكواكب والنجوم السيارة، أصبح بموجب هذه الرؤية قطب الدائرة ومركز الكون، مما نتج عنه القول في بداية الأمر أن العالم تبعا لذلك محدود بما يراه الإنسان. ومن ثم إن تصور كليات الأشياء في تفاعلها وكميتها في الكون كان المدخل الأول لإثارة العديد من القضايا الفلسفية، منها هل العالم من حولنا محدود بهذه النظرة؟ والحال أن هذه الفكرة التي نكونها عن الواقع ليست بطبيعة الحال الواقع في حد ذاته، مما حذا بالفيلسوف سبينوزا "Spinosa" أن يعتبر الله هو الطبيعة "Deus sive Natura" في امتداده. وبالتالي فالقول بوجود عالم خاص غير ممكن لأن القول به يتناقض مع الحضور الرباني القادر على خلق عوالم لا متناهية.إ ذ تم اعتبار هذا الكون في امتداده المطلق واللامتناهي "كأشياء انبجست بصفة لا متناهية بالضرورة من طرق لا متناهية "...". أي بنفس الطريقة التي تكون فيها طبيعة المثلث إلى الأبد هي مجموع زواياه الداخلية المتساوية مع زاويتين مستقيمتين، وإلا اضطررنا للاعتراف بأن الله يتضمن أشياء لا متناهية لن يكون بوسعه خلقها، لأنه إذا خلقها سيستنزف حضوره الدائم، وبالتالي يصبح غير كامل" " سبينوزا، "Ethique" 1. 21. والواقع أن هذا الموقف الفلسفي غير بعيد عن ما اعتبره أينشتاين "Einstein" ب"الواحد الأزل" الذي يعتبره كناية عن الطبيعة>> في مجملها. ومهما يكن من التحولات التي حبل بها هذا المصطلح عبر التاريخ، فلا يمكن التغاضي أنه كان محل هجوم عنيف من رائد التنوير إيمانويل كانط الذي اعتبر أن مصطلحات من قبيل: الميتافيزيقا، الكون، الروح... انتاجات لقيطة للعقل البشري ولا تتمتع بأي مصداقية. وهو ما أشار إليه حين قال في نقد العقل المحض : " إذا كان الفضاء قائم بذاته، سيكون إما متناهيا أو غير متناهي, لكن كلا الفرضيتين خاطئتين "....", ومن الخطأ أيضا القول أن الكون بما هو مجموع تمظهراته، كيان قائم بذاته ". وبالطبع إن ذلك ما مهد لأن يعرف الإنسان الكون ككلية حقيقية بجميع مكوناته المتفاعلة، أي أن وجوده أسبق عن وصفه إذا تبنينا موقفا واقعيا. فمن جهة، إن القول باللامتناهي هو قول مردود على صاحبه وغريب كل الغرابة عن ميدان العلم، فالعلم قياس وحساب لجميع الظواهر بطرقة كمية ومتناهية. ومن جهة أخرى، إن الكون يمكن قياسه عبر أطرافه، لأنها تشكل أعدادا نهائية كما أوضحت ذلك نسبانية أينشتاين التي تحاول أن تقدم هندسة لمعرفة وصياغة طاقة الكون رياضيا والجمع بين الزمان والفضاء بعد أن تم الفصل بينهما طويلا. يعتبر ديكارت أول من أكد على خصوصية الإنسان عندما اعتبره جوهرا، يمكن دراسة أعضائه الجسدية وما يحيط به من ظواهر طبيعية بطريقة تجعله يفكر ويعقل ما يفكر فيه بوعي. " خطاب المنهج، الجزء الخامس، ص: 113-119". ومن نافل القول أن العلم عنده بحث عن الحقيقة، والحقيقة في هذا الباب تعني ملامسة حقيقة الظواهر في الكون عبر الرصد والملاحظة. إذ يتم الربط بين الظواهر والأسباب بعامة، بحيث يمكن اعتبار المقاربة الديكارتية للكون اعتباره امتداد ومتصل ولا وجود للعدم فيه. كما أنه يمكن اعتبار الوصف الهندسي للظواهر ممتلكا لنفس قيمة التفسير السببي للظواهر، أي أن تأسيس الميكانيكا يقوم على معطيات قبلية وهندسية وعلى تماثل المادة والامتداد. وعوار هذا الحد أن لا نستفيض فيه أكثر من التأكيد على أن ظهور النموذج العلمي الحديث بفضل ديكارت ونيوتن وكبلر وغاليليو يقوم على التخلص من النموذج القديم القائم على القياس، بحيث قام الفصقل ـ الباراديغم ـ الجديد على دراسة القواعد والمبادئ والاختزالية المنهجية والرياضية التي تقول بوجود قانون يحكم هذا العالم يجب الكشف عنه. ومع هذا العالِم الفذ " أصبح العالَم آلة عظمى منظمة تنظيما محكما حسب قوانين معينة " والمعرفة العلمية معرفة وضعية بالأساس، بحيث إن التفسير العلمي لا يمكن أن يكون غير التفسير السببي. إذ أن معرفة النتائج تقودنا إلى معرفة الأسباب، وإذا لم نبحث عن تفسير الأسباب لتفسير النتائج، كنا كمن يدور في حلقة مفرغة. كل ذلك بطبيعة الحال يتوقف في نظر ديكارت على معرفة أسباب الظواهر التي تعتبر بمثابة هوية العلم الجديدة آنذاك، والتي لا تسْتوفي معقوليتها إلا بفهم القانون والطريقة التي تنتظم بها تلك الظواهر وتشتغل بنفسها أو بغيرها. فكل "علم هو معرفة يقينية وبديهية على وجه المطلق. الأمر الذي مهد لنيوتن أن يجدد نظرة الإنسان إلى العلم وبالتالي إلى الكون، فالعلم يستقي منهجيته من الرياضيات والفلسفة الطبيعية، اعتمادا على التجربة والتجريب بالكشف عن القوى الخفية التي تحرك أي ظاهرة طبيعية. كما أن مهمة العلم تنحصر في الكشف عن الميكانيكا الكامنة في صلب أي ظاهرة. فالتقديم الأول لكتابه:"مبادئ رياضية لفلسفة الطبيعة" يمكن اعتباره بمثابة مقدمة لميكانيكا عقلانية تحاول أن تشير إلى الأشياء بتقديم وصف تقني لأشكالها وخطوطها وأحجامها وصورها يتم تضمينها قواعد رياضية. بمعنى إخضاع ظواهر الطبيعة إلى قوانين علمية مصاغة صياغة رياضية.ومن ثم، أولى نيوتن جهوده لفهم ما يعج به الكون من ظواهر إلى تحليل العناصر التالية: الجاذبية، الصلابة والسيولة، ما سمح له بتأسيس فلسفته الطبيعية على مفهوم القوة، أي قوى الجذب في الظواهر الفلكية والبحرية بمثابة المعطى الواقعي الذي لا مناص من دراسته، بحيث يصبح الخاصية الأساسية للعلم، هي البحث عن الأسباب. وبموجب ذلك تم اعتبار العالم ككتاب يقتضي فهمه اعتماد الرياضيات وإلغاء التفكير الخرافي، لأن كتاب الطبيعة مكتوب بأبجدية هندسية ورياضية. الأمر الذي نتج عنه لزاما الوصول إلى مبادئ رياضية وقواعد تخص قوانين الحركة وقوة الدفع فيها وكميتها وشكل الكتل " أي مقدار المادة في جسم ما، باعتبارها معيار لمدة مقاومة الجسم للتغير في حالة حركته وسكونه"، ما يهيئ سبل القيام بتجارب تطبيقية عن طريق قواعد رياضية. إذ يعتبر نيوتن العالم مكونا من ثلاثة عناصر أساسية : / 1المادة: مجموعة لا متناهية من الجسيمات، مفصول عن بعضها البعض، وصلبة. كما أن كمية المادة تقاس في ميكانيكا نيوتن بكتلة الجسم. وعلمنا أنه يمكن تعيين كمية ثابتة، وهي << الكتلة>> لكل جسم مادي، وذلك من خلال خطوات قياس معينة. 2 / الحركة : علاقة من الجسيمات، تنقل هذه الأخيرة في الفراغ دون إلحاق أي تغيير على طبيعتها. 3 / المكان : هو ذلك الفراغ الذي تحقق فيه الجسيمات حركتها . فلأول مرة في التاريخ يتمحور المنهج الرياضي حول سيرورة من ثلاث مراحل : * هيكلة رياضية وهندسية لبناءات نظرية. * مقارنة نتائج هذا البناء الرياضي مع ما هو موجود وقائم في الطبيعة. * إعادة بناء النموذج الرياضي لكي يكون أقرب إلى آليات الطبيعة وحتى نضمن أن تكون نتائجه أقرب منها. مؤدى هذا التفكير توجيه الإنسان إلى الطبيعة لاستخلاص القوانين في قوالب رياضية وفيزيائية يمكن تجريبها في كل آن وحين. وبهذا ربط نيوتن بين الطبيعة وقوانينها، وبين قوانين الحركة والسيولة والأضداد والتمدد و"قوانين حركة الكواكب الثلاثة الكبار كنتائج مباشرة لقانون الجاذبية العام"، وظاهرة المد والجزر، واضطراب حركة القمر والانتفاخ الاستوائي للأرض... التي كانت من إحدى آثارها تصدير قوالب وقواعد وقوانين من الحياة الطبيعية إلى الحياة اليومية. كل ذلك أولى التجربة أهمية كبرى، بحيث لم يعد بديلا عنها كسبيل لفهم الطبيعة ومنهاجا للبحث العلمي بامتياز. وهذا ما نجده في فتحه العلمي المبين عندما وجد حلقة الربط بين ظواهر طبيعية جد مختلفة كمسار الكواكب وسقوط الأجسام والصعود الموسمي لمياه البحر عن منسوبها الطبيعي من خلال قانون الجاذبية بوصفه المبدأ المحرك لتلك الظواهر الذي يستطيع تقديم شرح السببية التي تتحكم فيها. ومن هذا المنطلق كشف نيوتن عن مبدأ ثاني في منظومته العلمية، حيث اختار في هذا المضمار منهج تحليليا كطريقة تسعفنا بالتدريج في فهم سلم الظواهر درجة، درجة. وهو الذي " يتمثل في القيام بتجارب لاستخلاص النتائج العامة بواسطة الاستقراء والملاحظة " أي التوصل إلى الحكم الكلي أو العام انطلاقا من معرفة الجزئيات"، بالإضافة إلى عدم القبول بأي اعتراض إن لم يكن مستخلصا من الوقائع أو من حقائق مؤكدة، كما عدم الالتفات إلى الفرضيات "..." وبذلك وحده يمكن أن نمر من المركب إلى البسيط ومن الأسباب الجزئية إلى الأسباب العامة حتى نصل إلى السبب الأول>> "Principia 5, 347". وعموما تأرجحت محاولة نيوتن بين الاستقرائية ويقينية التقليد الرياضي من جهة، والاندغام في واقع التقليد التجريبي من جهة أخرى. الأمر الذي هيأه أن يكون أول عالم اكتمل على يده الجمع بين المبدأين الأساسين في الثورة العلمية: تيار الرياضيات وتيار التجريبية. والجدير بالذكر أن هذه الطريقة مكّنت نيوتن بالتوحيد بين فيزياء السماء وفيزياء الأرض محطِّما بتلك الثنائية القديمة التي كانت تعتبرهما منفصلتين إلى الأبد. فمبدأ الجاذبية الشهير ييسِّر سبل فهم العديد من الظواهر الكونية، أي كان تواجدها سواء على أديم الأرض أو في علياء السماء بناء على معقولية العالم. وإذا كان نيوتن في هذا الإطار يتقاسم وديكارت معايير حدسية حول معقولية الطبيعة المادية، غير أنه يختلف معه اختلافا في كثير من تفسير ظواهر الكون التي أثبتت اجتهادات نيوتن. بل أن هذا الاختلاف يزداد عندما يتعلق الأمر بكيفية ارتباط هذه المعايير في الذهن بالبحث العلمي. فالحقائق الاستقرائية عند نيوتن سابقة على الحقائق الحدسية التي يهتم بها ديكارت. ثم من غير المعقول اعتماد الحقائق الحدسية كحقائق للكون والطبيعة، لأن العلم لا يقدم لنا يقينا بأن قوانين العقل الحدسي تتطابق ونظيرتها الطبيعية. وبإيجاز شديد يمكن تلخيص مساهمات نيوتن الفيزيائية كالتالي: إن نظام الميكانيك الذي يستند على قوانين نيوتن في الحركة، تعتبر فيه الكتلة والطاقة خاصيتين ميكانيكيتين محافظتين منفصلتين. وقوانين الحركة الثلاث: ينص القانون النيوتوني الأول على أن جسيما لا يخضع لأية قوة خارجية يبقى ساكنا، أو أنه يتحرك بسرعة ثابتة على خط مستقيم، يطلق عليه أيضا قانون القصور الذاتي. ينص القانون الثاني على أن تسارع جسيم يتناسب طردا مع القوة الخارجية الحاصلة المؤثرة في الجسيم وعكسا مع كتلة الجسيم. يطلق عليه " قانون القوة". في حين ينص القانون النيوتوني الثالث على أنه إذا تفاعل جسيمان، فإن القوة التي يؤثر بها الجسيم الأول في الجسيم الثاني "تسمى قوة الفعل" تتساوى بالقيمة المطلقة، وتعاكس بالاتجاه القوة التي يؤثر بها الجسيم الثاني في الأول " تسمى هاته قوة رد الفعل".ولقد أثبتت هذه القوانين صحتها في جميع المسائل الميكانيكية التي لا تشمل على سرعة متقاربة مع سرعة الضوء، وغير مشتملة على جسيمات ذرية أو أجزاء ذرية. وبالنسبة لحل مشكلة حركة الأجرام السماوية، صاغ نيوتن في البداية تفسيرا سببيا لحركة الميكانيكية، مما أدى إلى تحديد أصناف حركة الموضوعات الخاضعة لقوى داخلية أو خارجية، وانطلاقا من قوانين كبلر، خلص نيوتن قانونا للقوة يتميز بالخاصيتين الأساسيتين: أ- القوة ظاهرة آنية. ب- تمثل هذه القوة تأثيرا عن بعد. ولن يغيب عنا أنه في عصر نيوتن كانت الأجسام الصلبة منها أو غيرها، لا تؤثر في بعضها البعض إلا بالتماس، مما يعني غياب أي قانون آخر، قبل أن يكتشف نيوتن قانون الجاذبية التي هي آنية وتؤثر عن بعد. كما أنه إذا كانت قوة الجاذبية بما هي قوة آنية لها القدرة على التأثير من بعيد، فإن الأحداث الآنية والمتباعدة مكانا يمكن أن تعتبر مترابطة سببيا. والمهم من ذلك أنه إذا عرفنا وضع وسرعة كوكب ما في لحظة، يمكن تحديد وضعه وسرعته في أية لحظة لاحقة. إلا أن هذا القانون كما نعلم، لم يعد قادرا على تقديم تفسير مقنع لظواهر المادة الأخرى، غير الصلبة... الخ، بحيث أن ظهور نظرية المجالات، شكّل إضافة نوعية برزت معها صيغة جديدة من السببية، إذ يقترح فاراداي "Faraday" تأويل المجال الكهرومغناطيسي بما يجعله تحولا في مادة الأثير . والحال أن الفيزيائيين قبل أينشتاين حاولوا تفسير جميع الظواهر الطبيعية بما فيه الظواهر الكهربائية والمغناطيسية بأساليب ميكانيكية. الأمر الذي دفعهم لافتراض وجود الأثير للتمكن من تفسير ميكانيكي لانتشار الموجات الضوئية. والجديد الذي خرج من معطف دراسة الظواهر الضوئية، يتمثل بالنسبة لمكسويل"Maxwell" افتراضه أن الحقل الكهرومغناطيسي شيء واقعي. ومن ثم اعتبر مكسويل الزمان والمكان ساحة لقوانين الحقل، مما يخالف وضعهما في حال قوانين الميكانيكا، التي يتم النظر فيها لهما كعبارة عن نقاط تحضر فيها الأشياء المادية أو الشحنات. وبمجرد التقدم في هذا المسار الجديد ومع تعزيز مواقع النظرية النسبية، تم الحصول على تأويل طبيعي للقوى التي بدا أنها تؤثر عن بعد، ولقد تم تقوية وتعضيد هذا التأويل بفضل الأعمال التي قام بها مكسويل وهيرتز "Hërtz"، كي يفسح المجال للتخلي عن إعطاء طبيعة ميكانيكية لمادة الأثير بالتوحيد بين فيزياء القوى المركزية وفيزياء المجالات. الأمر الذي مهد لافتراض مؤداه أن للأثير خواص مادية، لكن مع لورنتز وأينشتاين تم الاستغناء عن ذلك، كي يصبح مجرد مكان له بعض الخواص الحركية، ما مهّد للمجالات أن تمثل " موضوعات" لها أهمية نظرية واستقلال ذاتي، لأنها لم تعد في حاجة إلى مادة ميكانيكية لكي توجد. وإذا شئنا التبسيط قلنا، يكون الرجوع إلى التأثير أو الفعل الذي قال به نيوتن، إن هذا التأثير يحتاج إلى وسط، ولكن هذا الوسط ليس ماديا ولا ميكانيكيا، بل هو مجال. مما يعني أن العامل السببي في الطبيعة لم يعد قابلا للملاحظة المباشرة. وبذلك نكون قد دخلنا عالم الذرات والإلكترونات غير المرئية والتجاذبات الخفية، بحيث إن قوانين نظرية المجال، تماما كما هو حال نظرية نيوتن الميكانيكية، لا تفرض أي حد أقصى على سرعة القوى. ولقد نتج عن هذا عدم إمكانية فرض أي نظام زمني خاص على سلسلة من الأحداث تعتبر مترابطة سببيا. وهنا تتدخل نظرية النسبية لأينشتاين. ومن ثم تبين لاينشتاين استحالة استيعاب الذرية من طرف فيزياء المجالات، بحيث تم اعتبارها كيانا مستقلا إلى جانب المجالات الأساسية. هكذا إذن تم تحطيم التصور الزمكاني الحدسي واندثر الاعتقاد في الموضوعية الكلاسيكية للعالم الميكروسكوبي التي تعد قاسما مشتركا بين الفيزياء العقلانية والحس المشترك، بحيث نتج عن تحطم هذا البناء السائد في الفيزياء الكلاسيكية أن أخذت الذات والذرة والاحتمالية على حد سواء مكانهن. النسبية المقصورة " المحدودة" أو الخاصة بعد نجاح الفيزيائي الإسكتلندي جيمس كلارك ماكسويل في توحيد الكهرباء والمغناطيسية في إطار المجال الكهرومغنطيسي انطلاقا من الأبحاث التي قام بها الفيزيائي الإنجليزي ميخائيل فاراداي، بحيث بينت بأن الاضطرابات الكهرومغنطيسية تنتقل بسرعة الضوء بطريقة ثابتة لا تتغير أبدا. مما جعل الضوء المرئي نفسه عبارة من الموجات الكهرومغناطيسية، وهي الموجات التي أدركنا أنها تتداخل مع كيماويات شبكة العين لتعطي الشعور بحاسة البصر. الأمر الذي أظهر بما لا يقبل الشك بأن الموجات الكهرومغناطيسية في حالة سفر دائم، لا تتوقف أبدا " ومنها الضوء المرئي". فالضوء دائما ينتقل بسرعة الضوء. ومن ثم كان الاهتمام في النسبية المحدودة بالمعالجة الدقيقة للكيفية التي يبدوا فيها العالم للأفراد، بحيث يمكن الوقوف على الحدس وعيوبه واختلاف وجهة نظر الراصدين والملاحظين أثناء حركتهم، فمثلا تبدو الأشجار على جانبي طريق سريع وكأنها تتحرك من وجهة نظر سائق سيارة، لكنها تبدو ساكنة بالنسبة لمن يقف على جانب الطريق يحاول إيقاف سيارة كي تنقله إلى مكان ما. وبالتالي تزعم النسبية الخاصة بان الفروق بين ملاحظات الإثنين " السائق والواقف على الطريق" أكثر دقة وحدة من أن يجمع بينها. لكن النسبية الخاصة بإمكانها أن تحل هذا التعارض بين الموقفين، أي بين حدسنا عن الحركة وخواص الضوء، لكن يبقى بأن الأشخاص الذين يتحركون بعضهم بالنسبة لبعض كما وقع في المثال الذي ضربناه، سيختلفون حتما في مشاهداتهم الخاصة حول المكان أو الزمان. لكنه على الرغم من هذا الاكتشاف العظيم، ما زال أغلبنا يرى المكان والزمان كأمر مطلق. هذا على الرغم من أن هناك فروق بالفعل على الرغم من ضآلتها بين الإدراك الحسي للزمان والمكان عند الأفراد المستقرين على الأرض والمسافرين في سيارات وطائرات. إجمالا، إن مبدأ النسبية الخاصة يقوم على خواص الضوء ومبدأ النسبية، بحيث مهما كانت السرعة التي تلاحق بها شعاع الضوء فإنه سيظل يتحرك مبتعدا عنك بسرعة الضوء, أي أن سرعة الضوء تنتقل في الفضاء الخاوي بأكثر من 670 مليون ميل في الساعة، والسرعة هنا تعني مقياس للمسافة التي يقطعها جسم في زمن معين، فيما هي في الكون مجال بحثنا هي مقياس لمقدار ما هو موجود بين نقطتين. وبذلك فإن السرعة مرتبطة غاية الارتباط بمفهومنا عن الزمان والمكان. والحقيقة أن سرعة الضوء لن يستطيع أحد إبطاؤه ليبدو ساكنا بالنسبة له. الأمر الذي جعل أينشتاين يستخلص بأن ثبات سرعة الضوء يعني سقوط مدويا لفيزياء نيوتن. ثانيا ، يقوم مبدأ النسبية على حقيقة بسيطة، مفادها أنه في الوقت الذي نناقش فيه السرعة " سرعة الجسم واتجاه حركته"، علينا أن نحدد بالضبط من أو ما الذي يقوم بالقياس، بحيث لا يمكن أن نتكلم على حركة جسم إلا بالنسبة لجسم آخر أو مقارنة به. إذ لا بد من نقطة ننطلق منها للقياس، كقياس العلو من سطح البحر مثلا... ألخ فالحركة نسبية، ولا يوجد مفهوم مطلق للحركة. ولقد اهتم أينشتاين بتحليل عملي لإجراءات قياس الطول والزمن، ما دفعه للتأكيد بأن روابط الزمان والمكان اللذان ينتميان إلى منظومة <<غاليليو>> يظلان مرتبطان فيزيائيا وليسا منفصلان، بحيث يؤكد مبدأ النظرية النسبية المقصورة أن جميع أنظمة الثقالة أو العطالة " أنظمة ذوات مرجعية غاليليو" متطابقة من أجل تفسير الحركة، وأن ما نسميه بأنظمة << الثقالة أو العطالة>> أو بالأحرى مبدأها العام يجعل من جميع الأجساد التي لا تخضع لأي قوة، فهي إما في حالة راحة بطريقة مستمرة، أو أنها حيّة بواسطة حركة مستقيمة وعلى نمط واحد. وبذلك استطاع أينشتاين أن يُوضِّح مدلول المعادلة الرياضية المعروفة بتحول لورنتز، حيث القبول في هذا الإطار بالمسلمة القاضية بثبات سرعة الضوء في الفراغ، يتيح أن يرجع قياسات الزمن إلى قياسات المكان. ومن ثم تغدوا الساعة المثالية شعاعا ضوئيا يسافر في الفراغ طوال مسطرة صلبة. مما مكن أينشتاين من تقديم حل للمشكلة التي واجهت الفيزياء في بداية القرن العشرين : 1 / إذ كانت الفيزياء الميكانيكية تعتبر أنظمة غاليليو متطابقة في وصف الحركة " مبدأ النسبية"، وإذا تبنينا تحول غاليليو " إن الروابط والزمن مرتبطان في نظامين مرجعيين اعتباطيين وفق نظامه المرجعي" من أجل المرور من نظام جامد إلى آخر، ينجم عنها قانونا تكميليا "اتجاهي" للسرعة، أبرز عناصره: 2 / اختلاف سرعة الضوء في نظامي غاليليو 3 / لكن تظل فرضية سرعة الضوء " في الفراغ" ثابتة بالنسبة لجميع أنظمة غاليليو، فهي مستقلة عن حركة المصدر. وبالتالي إن القضية2 و3 متناقضتين . الأمر الذي فرض تغيير المسلمات، بحيث تتغير المسلمتان داخل نظرية النسبية المحدودة وتصبح كالتالي : 1- إن جميع أنظمة غاليليو " أنظمة العطالة أو الثقالة" متطابقة من أجل صياغة جميع قوانين الفيزياء، 2- تنتشر سرعة الضوء في الفراغ بسرعة ثابتة وبالنسبة لجميع أنظمة غاليليو وبمعزل عن حركة المصدر. بحيث يمكن أن نبسط هذا الأمر بعرض المثل التالي: إن سرعة الضوء ثابتة لا تتغير بالزيادة أو النقصان تبعا لسرعة مصدره وهو يبتعد أو يقترب. ولتقريب ذلك إلى الأذهان، هب أنك تنظر إلى ساعة ساحة نوفمبر في شارع بورقيبة، وأن عقرب الساعات يشير إلى رقم 2، بينما يشير عقرب الدقائق إلى العدد 12. معنى ذلك أن الساعة هي الثانية تماما، وأن هناك صورة ضوئية لعقربي الساعة وهما على هذا الشكل تسقط على عينيك وتتحرك منطلقة بسرعة الضوء لتحل صور أخرى محلها متتابعة في عقربي الساعة وهما يتحركان. والآن هب أنك تحركت مع الصورة الأولى بنفس سرعتها " سرعة الضوء"، فإنك سوف تلازمها بطبيعة الحال ولا تدركك الصور التي بعدها... وهكذا سوف تقول أن الساعة هي الثانية، وتتلاشى فكرة الزمن عندك وتتحول إلى مجرد مكان بالنسبة إلى شارع 7 نوفمبر. ثم افترض أنك تحركت بسرعة أكبر من سرعة الضوء " وهو أمر مرفوض علميا "، فإنك ولا شك تلاحق الماضي وترى عقارب الساعة وهي تتراجع إلى الخلف!!! ومن المستحيل تماما أن تتحرك بسرعة أكبر من الضوء لتلاحق الماضي. لكن الأمر البالغ الأهمية بأن أي معلومة أو فعل سببي يمكن أن يتم نقله أكثر من سرعة الضوء. ومن أجل تطابق الفرضيتين عمد أينشتاين إلى تحليل عميق لمفهوم الزمن والمكان، مكنته في الأخير من توضيح نسبية مفهوم التزامن ومفهوم الطول، أي ذلك الغموض الذي كان يخص عملية القياس ذاتها! والحالة هذه أنه إذا كان تحول لورنتز يؤكد على ثبات سرعة الضوء في أنظمة غاليليو، فإن ذلك دفع أينشتاين إلى اقتراح تأويل واضح لهذا التحول، بالبرهنة على عدم وجود تناقض بين مبدأ النسبية وفرضية انتشار الضوء بسرعة ثابتة. بيد يبقى بأن النظرية النسبية الخاصة أودت بالمفاهيم الكلاسيكية للزمان والمكان والكتلة والتزامن. إذ من دون شك أسقط أينشتاين المفهوم المطلق للأشياء، بحيث لا يوجد حقيقة مطلقة في العالم، والكل فيه يتصف بالنسبية. الجزء الثاني من مقال للباحث الدكتور / حسن المصدق - أستاذ بجامعة السوربون . Share this post Link to post Share on other sites