Jump to content
Sign in to follow this  
الكون الواسع

العلماء والجمهور والمركبات الفضائية

Recommended Posts

السلام عليكم

 

كانون الثاني/ يناير 2004، الساعة الرابعة والربع. وكالة الفضاء الاميركية، الناسا، تنقل مباشرة على موقعها على الانترنت وصول المسبار "سبيريت" الى المريخ. بعد أكثر من ساعة بقليل يدخل الجهاز الى فضاء الكوكب الاحمر. الصحافية الجالسة في احدى زوايا قاعة الرقابة التابعة لمختبر الدفع الصاروخي (JPL) في الناسا، تقدم الاخبار واشرطة الفيديو حول مختلف جوانب الرحلة. اما الوقت الباقي فتتم خلاله متابعة المبادلات بين المهندسين والاجهزة الفضائية من خلال كاميرات مثبتة في قاعة الرقابة.

 

في اللحظة التي يكتشف فيها المهندسون ان المسبار دخل فضاء المريخ يكتشف معهم ذلك كل من جلس ازاء شاشة حاسوبه. وما ان ترسل اللواقط المعلومة بأن المسبار حط على سطح الكوكب حتى يشارك الجميع في الفرحة التي تعم اعضاء فريق الوكالة الاميركية للفضاء. اخيرا فان الجمهور يكتشف بالتزامن ايضا وصول الصور الاولى. اتابع المؤتمر الصحافي من بيتي فألاحظ وجود صديق في قاعة المؤتمر. يتدخل طارحا سؤالا، فأبعث اليه برسالة الكترونية يجيبني عنها بعد قليل. انه شعور كامل بالمشاركة في المغامرة والوجود في قاعة الرقابة والمتابعة في الناسا.

 

الامور تختلف تماما عند اعلان الوكالة الفضائية الاوروبية قبل 10 ايام عن وصول رحلة "مارس اكسبرس" الى مدار الكوكب الأحمر. لا كاميرات في قاعات الرقابة ولا مؤتمر صحافي مباشر. ويجب انتظار اسابيع عديدة قبل الحصول على صورة واحدة لا غير، جميلة لكنها تعبث باعصاب الصحافيين العلميين الذين سمعوا شائعات عن وجود صور اخرى.

 

لكن من وجهة نظر الوكالة الاوروبية لا يعقل تسليم الصور الى الصحافة قبل تأكيدها من مختلف مستويات التراتبية داخل الوكالة. وعندما يكتشف الجمهور هذه الصور المليئة بالدمغات الرسمية فان شعور المرارة ينبئه بانه لن يشارك ابدا في الرحلة. فبينما يستطيع مستخدم الانترنت ان يتابع ظهور الصورة في هيوستن وانتقالها من الاسود والابيض الى الملوّن، فان صورة الوكالة الاوروبية لفضاء تصل كاملة جاهزة للنشر وليس للمناقشة.

 

تكشف المقارنة بين التعميم الاميركي والتعميم الاوروبي للمعلومات العلمية اختلافا في مفهوم العلم. فالوكالة الاوروبية تعتبر ان هناك العلم من جهة والجمهور من جهة، العلماء يبلورون النتائج وينقلونها الى الجمهور في مرحلة تالية. بالنسبة الى الوكالة الاميركية فان الصور جزء من مسار بينما هي اطلالة على المريخ في نظر الوكالة الاوروبية. هناك الجمهور يلعب دورا، وهنا يكون مجرد مشاهد.

 

ويعبر موقف الوكالة الفضائية الاوروبية عن نموذج قديم للتعميم العلمي وعن العلاقة بين مالكي المعرفة ومتلقيها. علاقة بين العالم والجاهل ولو ان الامور لا تصاغ بهذا الشكل. بالنسبة الى الوكالة الاميركية فان الجمهور جزء من الفعاليات المدعوة للنقاش اذ لا تفرقة بعد الآن بين العلماء من جهة والجمهور من جهة أخرى بل مشاركة من مجمل الفعاليات ولو بدرجات متفاوتة في التعريف بالفعل العلمي. والنقاشات التي تبدأ في قاعات المراقبة تستمر في الحيز العام خارجها.

 

شعور غريب يولده هذا التعارض بين كاليفورنيا وهولندا، بين الناسا الاميركية والايزا الاوروبية: هيوستن تعرض علينا كل ما يجري ويقال في قاعة المراقبة ومع ذلك فاننا لا نرى شيئا! فبالنسبة للجمهور المعتاد على عود؟؟؟؟؟ من نشر المعرفة من خلال صور المريخ الملونة والافلام المركبة، يبدو المريخ فجأة كأنه الغائب الأكبر عن العيد. لا كوة للنظر كما في افلام الخيال العلمي تنفتح على منظر المريخ ومشاهده ولا كاميرا تنقل مباشرة مراحل الرحلة. واذا لم يكن المتابع على الانترنت مهندسا فضائيا فانه يتلقى هذه الحماسة الزائدة في قاعة المراقبة من دون ان يدرك اسبابها. فالمعلومات تصل على شكل معطيات تظهر على شاشات الحواسيب يمكن رؤيتها من دون التمكن من قراءتها (ولو تمكنا فالارجح اننا لن نفهم شيئا البتة).

 

في هذه الصالة المقفلة لا تدخل السماء الا من خلال الكابلات المربوطة بهوائيات التلسكوبات البعيدة. والمريخ يبدو فيها مشرّحا كجسم المريض في المستشفى او كما الحب في الافلام الاباحية. هنا الفضاء، هناك تحليل التربة وقياسات السرعة في مكان آخر... لا يعدّ المريخ كوكبا احمر سحريا بل مجموعة من المعطيات المتناثرة بين عشرات الحواسيب وعدد مماثل من الاختصاصيين. تجمع القطع فقط خلال المؤتمرات الصحافية من اجل اعادة تكوينها عبر صور جميلة "تشبه شيئا في نهاية المطاف"، كوكب المريخ مع اهل المريخ!

 

ان المفاجأة التي يشعر بها مستخدم الانترنت امام شاشته تعبّر عن خروجه الحديث العهد من نظام المعرفة العلمية القديم. فهو ما زال يعتقد في قرارة نفسه ان العلم يعني معاينة الطبيعة بعينيه وملاحقة الوقائع بينما العلم طالما قام على بناء حيز بعيد عن الطبيعة تنقل اليه العيّنات وتنتج فيه الاشارات والترسيمات التي لا تشبه في شيء الصور الجميلة الملونة التي يمكن معاينتها في مجلات العلم الشعبي. فتلفزيون النازا يجبرنا اذاً على اعادة التفكير في النشاط العلمي وادراك فحوى العلم.

 

المفارقة الثانية: ان التواصل مع النازا لا يتحاشى النظريات من طراز افلام الخيال العلمي. فكلما انفتح الفضاء وبات في متناول الناس ليشاهدوا ويسمعوا ما يجري في صالات الرقابة والمتابعة، ازدهرت النظريات حول اسرار خفية لا تكشف امام الجمهور. تبدو سياسة التواصل التي تعتمدها وكالة الفضاء الاميركية غريبة اذا ما نظرنا الى النجاح الذي تلقاه نظريات المؤامرة في الولايات المتحدة.

 

وقد ظهرت هذه النظريات بصورة خاصة في العام 1998 عند طيران مسبار "مارس غلوبال سورفايور" فوق سهل سيدونيا حيث توجد تلك التلة الشهيرة على شكل وجه كان المسبار فيكينغ اكتشفها عام 1976. ان عدد الكتب الصادرة والتي تتهم النازا باخفاء الاسرار يدفعنا الى القول ان سياسة الوكالة فشلت. فكلما اخذت النازا الشائعات على محمل الجد من خلال اعادة تصوير موقع سيدونيا مثلا، بدا ان هذه الشائعات تتكاثر.

 

بيد ان تنامي نظريات المؤامرة لا يبدو من المفارقة في شيء الا اذا اعنمدنا النظام القديم في العلاقة بين العلم والجمهور. اولا لانه ليس من السهل التخيل ان بضع كاميرات موضوعة في قاعة المراقبة وازاء عتامة المشاهد المعروضة ستكفي لابعاد الشكوك، بل انها ربما تؤدي الى ازديادها. من ثم، فان النازا ومن خلال اعادة تحديد علاقتها مع الجمهور لا تسعى الى منع النقاشات على طريقة مسلسل "ملفات X" بل تقبل بإدخالها في صلب النقاش ولو انها تفتقر الى الشرعية العلمية.

 

وانسجاما مع سياستها في اشراك الجمهور في مسار الاكتشافات، فان الوكالة الاميركية مضطرة للاعتراف بهذه النقاشات من دون ان تعطيها بالطبع الاهمية نفسها التي توليها لنقاشات الاختصاصيين في ما بينهم. هذا ما قد يصدم انصار المدرسة القديمة. فكيف نضع على المستوى نفسه ليس فقط الاسئلة غير العلمية بل ايضا هذيان الذين يؤمنون بالمخلوقات الفضائية؟ لكن افضل مؤشر الى هذا التجاور ـ اضافة الى قبول النازا اعادة تصوير سيدونيا عام 1998 ـ يأتي من ان قسما من هذه النظريات لا يولد داخل الجمهور "الجاهل" بل في اوساط المهندسين انفسهم تماما كما ان النظريات حول اخفاء سلاح الجو الاميركي لحقيقة المركبات القادمة من الفضاء الخارجي تنتمي الى الفولكلور العسكري نفسه. واحد ابرز مروجي هذه النظريات هو احد قدماء النازا، ريتشارد هوغلاند، كما ان اطراف النقاش حول ان الوجه؟؟؟؟؟؟؟ على سطح المريخ اصطناعيا هم من المهندسين العاملين في الشركات التكنولوجية الاميركية الكبرى واحيانا في وكالة الفضاء نفسها. والواقع انهم كانوا الوحيدين لوقت طويل القادرين على الوصول الى الحواسيب لتشريح الصور وتغذية الجدال.

 

لم يعد ممكنا الفصل بين الجدال العلمي والهذيان حول المركبات القادمة من الفضاء الخارجي بل ان المطلوب التوقف عند كل المسائل التي يثيرها اطراف النقاش سواء كانوا باحثين او صحافيين او من الجمهور العريض او من اتباع فوكس مادلر. من الطبيعي ان يتناقش الناس وان يتدخلوا في الجدال الدائر.

 

في الواقع ان النازا من خلال الغاء الفصل بين العالم والجاهل تعكس التوجه وتأخذ اتباع نظرية المؤامرة على حين غرّة. فهم باتوا يعيشون ضمن النظام القديم، نظام الايديولوجيا العقلانية التي تفصل بين العلماء والجهّال. فبينما توافق النازا على كسر النموذج القديم لتجعل منا جميعا شركاء في التجارب فان دعاة المؤامرة يبقون انفسهم اسرى العلاقة القديمة بين العالم والجاهل عندما يدعون ان امورا تخفى عنهم! فهناك حقيقة في مكان ما، وهم في الواقع جاهلون.

 

ان تغيير النظام يتطلب وقتا للتكيف في الحقيقة، فلسنا معتادين على اتخاذ مواقع اهل التجارب العلمية. فما زلنا مشبعين بالخطاب العلمي كمصدر لليقين ويصعب علينا تقبل الفكرة بأن العلم ينتج تداعيات وروابط علينا اختبارها. فعند شرائنا دواء او سيارة لسنا امام علبة سوداء بل ازاء تجربة تطول: ان كاراجنا وجسمنا ملحقات لمكاتب الدراسات.

 

اما اللجوء المتزايد الى حجة المؤامرة فلا ينبع من الرغبة في الوصول الى حقيقة لا جدال فيها بقدر ما يعبر عن طلب الحق في النقاش. لا نطلب معرفة الخفايا بل الوصول الى العناصر التي تسمح لنا بمناقشة هذه الخفايا.

 

ان المريخ ليس الموضوع الوحيد الذي يستحوذ على النقاش العام ولو ان هذا الكوكب يتمتع بشعبية كبيرة منذ نهاية القرن التاسع عشر وليس من زمن طويل كما يقال. وذلك لسبب بسيط وهو ان التفريق بين العالم والهاوي لم يكن واضح المعالم تماما عند بداية دراسة هذا الكوكب الاحمر وها نحن اليوم في وضعية من التداخل نفسه

 

Share this post


Link to post
Share on other sites

Create an account or sign in to comment

You need to be a member in order to leave a comment

Create an account

Sign up for a new account in our community. It's easy!

Register a new account

Sign in

Already have an account? Sign in here.

Sign In Now
Sign in to follow this  

×